وهَؤُلاءِ يقولون: إن كلام الله تَعَالَى هو ما يفيض عَلَى النفوس من المعاني، إما من العقل الفعال عند بعضهم، أو من غيره، وهذا قول
الصابئة و
المتفلسفة.
فهَؤُلاءِ النَّاس يقولون: إنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يُوصفُ بأي صفة ثبوتية وجودية. إذاً فهو مجرد علة تامة نشأ عنها المعلول، ونشأت عنها المخلوقات، وليس أكثر من ذلك.
فكلام الله في نظرهم: هو الفيض الذي يفيضه العقل الكلي أو العقل الفعال.
ويقول بعضهم: إنه يفيض عَلَى النفس الكلية ثُمَّ النفس الكلية تفيضه عَلَى النفوس الجزئية.
ومنهم من يقول: العقل الكلي يفيضه عَلَى العقول الجزئية.
وهذه المسألة مختلف فيها ولا يهمنا هذا الخلاف؛ بل الذي يهمنا أن كلام
أفلاطون وأمثاله الذين قالوا: إن العلة التامة الذي هو "الله" عندهم -كما يسمونه- لمَّا كَانَ لا يتصف بأي صفة، إنما نشأ عنه الكون بهذه الطريقة، نشأ عنه أول ما نشأ العقل الفعال، أو العقل الكلي، وهذا العقل موجود في الفضاء، ثُمَّ أصبحت هذه العقول بعد ذلك عشرة كما فصلها بعضهم، فالعقل الأول خلق الثاني، والثاني خلق الثالث، إِلَى أن صارت عشرة، ثُمَّ بعد ذلك: العقول العشرة هي التي خلقت الفلك.
وبعضهم يقول: خلقت الأفلاك، والأفلاك هي التي تدير الكون -فنسأل الله السلامة والعافية-
((وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ))[الجاثية:24] كلام لا صحة له ولا دليل عليه لا من نقل ولا من عقل وإنما هي تخرصات وافتراضات.
فكلام الله أو الوحي عندهم هو الفيض الذي يحصل من العقول أو من النفوس الكلية إِلَى العقول أو النفوس الجزئية،
العجيب في هذا الأمر أن أبا حامد الغزالي وهو الذي كتب كتابه تهافت الفلاسفة في الرد عَلَى الفلاسفة وإبطال مذهبهم هو نفسه: يقول إن الوحي هو انتقاش العلم من العقل الكلي أو النفس الكلية في العقول الجزئية؛ لأن أبا حامد الغزالي الذي كتب ضدهم والذي اشتهر عنه أنه ضد الفلاسفة في مواضع من كتبه، يقول: إن الوحي هو الفيض الذي يحصل من العقل الكلي إِلَى العقل الجزئي، أو انتقاش العلم من النفس الكلية إِلَى النفس الجزئية، وما أشبه ذلك.
ولهذا لما تعرض لذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ قَالَ: "إن كثيراً ممن قرأ لـأبي حامد وجدوا أن الرجل يتناقض فإنه يرد عليهم في أمور وهو يقول بها في بعض كتبه حتى أنشد بعضهم في ذلك فقَالَ:
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ وإن لقيت معدياً فعدنان"
أي أنه: أحياناً يكون مع الفلاسفة، وأحياناً يكون مع المعتزلة ضد الفلاسفة، فَقَالَ في أول كتاب التهافت نَحْنُ نرد عَلَى الفلاسفة بكل قول، أي: بقول المعتزلة، وبقول الكرامية، وما أشبههم، ومعنى هذا أنه ليس لـأبي حامد مذهب معين ثابت ينطلق منه من أول حياته إِلَى قريب من نهايتها. المهم أن يرد عليهم، ثُمَّ هو في موضع آخر يرد عَلَى المعتزلة، أو يرد عَلَى غيرهم، فكان يأخذ من كلام الأشعرية، ومن كلام المعتزلة، ومن كلام الكرامية، ويرد به عَلَى الفلاسفة ثُمَّ هو في نفس الوقت يرد عَلَى الأشاعرة في بعض المواضع وينتقدهم، ويرد عَلَى المعتزلة أيضاً ثُمَّ يوافقهم في بعض المواضع، مع أنه أكثر ما كَانَ يميل إِلَى الأشعرية، وهكذا كَانَ منهجه مضطرباً.
والذي يهمنا هنا أن نقول: كَانَ هذا المذهب هو مذهب الصابئة ومذهب المتفلسفة، والمنتسبين أيضاً إِلَى الإسلام من الفرق والطوائف التي اتبعتهم كـالباطنية والإسماعيلية والنصيرية والدروز وأمثالهم.
والخلاف الذي بين الفلاسفة في تحديد هذه الأمور بالدقة هو أيضاً موجود بين الفرق الإسماعيلية والدروز.
وأيضاً وقع في هذه القضية أو تأثر بها أبو حامد الغزالي وهو ممن دخل في الفلسفة، ودخل أيضاً مع الباطنية، ثُمَّ ترك الطائفتين، ولكنه كما قال تلميذه الإمام أبو بكر ابن العربي دخل شيخنا أبو حامد في الفلسفة ولم يستطع أن يخرج منها، فقد بقيت آثارها فيه، ولم يستطع أن يتجرد ويتخلى منها بالكلية.
فهذا القول قول الصابئة والفلاسفة قول كفري يخرج من الملة لم يقل به إلا الخارجون عن الملة، وما وقع في كلام أبي حامد فهو من آثار ذلك مع أنه مؤمن مسلم، ويدافع عن الإسلام ولا يخرجه ذلك من الملة، ونريد التنبيه عَلَى هذا، وهذا قد يقوله من هو مسلم وإن كَانَ هذا القول في الأصل قولاً كفرياً لا يقول به أي مسلم فمن قال بالقول الأول فهو خارج من الملة ولا خلاف في ذلك أي أن المعتزلة والأشعرية والماتريدية وغيرهم يوافقوننا عَلَى أن من أثبت الكلام بهذه الصفة، ومن قَالَ: إنه هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مجرد علة تامة، أو أنه هو الذي خلق العقل الكلي، والعقل الكلي خلق سائر الكون، إِلَى غير ذلك، فإن هذا كافر وخارج عن الإسلام، وبعضهم ينتسب إِلَى الإسلام مثل ابن سينا، ولكن ابن سينا كان يظهر أنه شيعي رافضي، وهو في حقيقته فيلسوف لا يؤمن بأي دين من الأديان، ولو كَانَ فعلاً شيعياً فهو أيضاً حكمه كحكم الشيعة، هذا هو قول أُولَئِكَ القوم في مسألة كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.